بحث جديد: التعليم العالي لدى الفلسطينيين في إسرائيل
صدر مؤخرًا بحث جديد للباحث مهند مصطفى بعنوان "التعليم العالي لدى الفلسطينيين في إسرائيل"، ننشر هنا خلاصته التنفيذية:
خلاصة تنفيذية:
إن النظرة التقليدية إلى الجامعة اليوم قد تغيرت، ولم يعد الاهتمام بالأبعاد التعليمية والبحثية هو كل ما تتمركز حوله اهتمامات المعنيين بالجامعات. فأمام جملة من الملابسات تشمل: التفاعلات والصراعات التي تحدث داخل الجامعة، الضغوط والمؤثرات التي تتعرض لها من خارجها، الانحيازات الأساسية التي تحكم الجامعة في توجهاتها نحو المجتمع المحيط بها، والتوقعات الجديدة التي غدت تنتظرها القوى الاجتماعية المختلفة من جامعة اليوم، فانه ليس من المبالغة القول إن الجامعة مجتمع ينطوي على قدر كبير من الخصائص السياسية والتنموية. وأنها تتجاوز كونها مؤسسة لاكتساب المهنة، بل تساهم في عملية التغيير المجتمعي من خلال خريجيها الذين يحملون مشروع التغيير.
يتمحور نشاط الجامعة في مجالين رئيسين: المجال المجتمعي الذي يمثل دائرة الخصوصية في عمل الجامعات، ويبرّر تواجدها ضمن مجتمع معين. والمجال المعرفي العام الذي يشكل دائرة العالمية في عملها، ويفرض عليها القيام بمهام تتخطى حدود مجتمعها، والمحيط الذي تنشأ فيه (Dike،1967). يهدف التعليم إلى إعادة إنتاج المجتمع، فالتعليم العالي الفلسطيني في إسرائيل (كحالة)، يطرح في سياق العلاقة مع المجتمع وحاجياته، وليس في سياق العلاقة مع الدولة بالأساس. ويمثل المبنى الاجتماعي السائد في المجتمع الفلسطيني، مع هياكل الثقافة التي تسندها، أحد منابع شرعية المبنى الاجتماعي والثقافي السائدة في المجتمع.
على هذا الأساس، يبقى المجتمع الفلسطيني- بتقليدية هياكله الاجتماعية والثقافية-، مصدرا مهما لبلورة شخصية الطالب، فهو حريص على صيانة تقليدية الثقافة السائدة باعتبارها الضامن لإعادة إنتاج هياكل المجتمع.
يلعب التعليم في هذه الحالة دورا حيويا كوسيلة جماهيرية فعالة قادرة على الحفاظ على الوضع القائم. وبصورة أوضح، يمكن القول: إن التعليم على هذا المستوى يمكن أن يلعب دورين، الأول: يتمثل في إعادة صياغة الثقافة السائدة، ومن خلال ذلك، إعادة إنتاج علاقات السلطة القائمة. أما الدور الثاني: فإمكانية أن يشكل التعليم أداة للتغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي، إذا استطاع أن يخلص الطالب من قيوده التقليدية التي تجره إلى الخلف.
فأما بالنسبة للدور الأول، الجانب الثقافي، لا تعتبر برامج التعليم في المدارس العربية وسيلة للتغيير الثقافي، بل هي على العكس من ذلك، تجتر ثقافة مشوهة، وتعطيها شرعية وحيوية بإدراجها ضمن المناهج الرسمية. إن تعليمنا يبرر السائد والموجود، أكثر من تحفيزه على استكشاف الجديد.
ومن بين السائد والموجود الذي يعيد التعليم صياغته دون تغييره، نجد الأنماط التي تمكن المجتمع من التفكير في ذاته والتعبير عنها، أي أنماط التفكير والتصور والتعبير عن نفسه، وتأتي هذه المحافظة الثقافية كضمان لديمومة علاقات السلطة الاجتماعية والثقافية القائمة.
ومن المعروف أن مؤسسات التعليم العالي بطبيعتها، منظمات معقدة، تشتمل على كل من القوى الرجعية والتقدمية، ويمكنها خدمة الاحتياجات العاجلة، ولكن لها توجها رئيسيا نحو المستقبل، فهي المسؤولة عن خيار المستقبل من التعليم والقوى البشرية الماهرة، ويعد التغيير بالنسبة للمؤسسات القائمة الراسخة أمرا صعبا. ولكن بمجرد حدوثه فإنه يستمر طويلا.
يذكر جميل هلال في كتابة المتميز عن الطبقة الوسطى الفلسطينية، دور الجامعة في المجتمع، يقول: "إن للجامعة جمهورها الخاص الذي يتمتع بامتيازات من حيث الوصول إلى المعرفة، وما لهذه من علاقة بالسلطة (بالمعنى الواسع للكلمة)، فالجامعة، كونها مؤسسة معنية بنقل المعرفة التقنية والفكرية والثقافية إلى الأجيال الصاعدة، تساهم في إنتاج (وإعادة إنتاج) تراتبيات السلطة، وفي توفير المعرفة للطبقة الوسطى ولطبقة أصحاب رؤوس الأموال وللفئة الحاكمة. لكن للجامعة، عادة، وظيفة أخرى، هي المساهمة في تشكيل الوعي النقدي السياسي والاجتماعي، وهي وظيفة تخدم تحدي التراتبيات التي تساهم الجامعة، موضوعيا، في إنتاجها" (هلال، 2006، 49-50).
التعليم أولا ثم التفكير ثانيا، الحرب ضد الوعي، هذه هي أسس التعليم العربي في المرحلة ما قبل الجامعية، وفي المرحلة الجامعية يغيب الفكر، لأنه لا يتم إنتاج عقول تفكر في المدارس العربية، فيتحول التعليم إلى مهنة مثل الحدادة، النجارة وغيرها من هذه المهن التي نكن لها كل الاحترام. وتفصل هذه الصياغة بين التعليم والتفكير، رغم الترابط العضوي بينهما، حسب أهم نظريات التعلم. ويقوم التعليم العربي بفصل التعليم عن التفكير من خلال اعتماد برامج تعطي الأولوية للمحتوى التقني والوجداني، على حساب التفكير الإبداعي العقلاني.
فنحن نلاحظ اليوم، أن البرامج الرسمية المعتمدة في التدريس تشجع أكثر فأكثر على الاهتمام بالمواد العلمية والتقنية. ولهذا التوجه ما يبرره بطبيعة الحال، أي ضمان حيز من المعرفة، وكم من الخريجين القادرين على الاندماج في سوق العمل، ويتجلى هذا الأمر من خلال تفضيل هذه المواضيع في الجامعات للطلاب المتميزين، ويسبقه تفضيل الطلاب الثانويين لهذه التخصصات في المرحلة الثانوية.
هذا هو نمط البرامج المعتمدة والتي تحد من إمكانيات التفكير لدى الطلاب من خلال إقصاء المواد المحفزة على التفكير كالعلوم الاجتماعية والإنسانية، مقابل التشجيع الكبير على العلوم الرياضية والفيزيائية والطبيعية (دون دروس التوالد وتطور الأجناس بالطبع). ولنا أن نتساءل هنا عن غياب مادة الفلسفة أو حضورها المحتشم في البرامج. الأمر الذي يجعلنا نقرر إن أحد الأهداف الرئيسية من وراء ذلك، هو الحد من إمكانيات التفكير الفلسفي العقلاني، أي الحد من إمكانيات التفكير في الأنا كإنسان وككائن اجتماعي، أي في نهاية الأمر، الحد من إمكانيات الوعي بالذات.
ما زال التعليم في جهاز التعليم العربي يتميز بالطابع التلقيني الكمي، وهناك فرق كبير بين الطابع الكمي في التعليم، والطابع الكيفي الذي يهتم بعدد قليل من الطلاب، ويقدم لهم خدمة تعليمية متميزة، ويدفع كلاً منهم إلى مزيد من الابتكار والتجديد والقدرة على المبادرة وإبداع الحلول غير المسبوقة لمشكلات قائمة بالفعل في مجتمعاتنا. وبالطبع فإن هذه الحالة التعليمية الكائنة هي السبب في أننا نشكو من قلة الباحثين المبدعين، على الرغم من أن لدينا عددا لا بأس به من الباحثين.
إن الأمر لا يتعلق بنمطية العقل العربي، كما يروج لها بعض المستشرقين (Raphael، 1983)، إذ لا توجد فروقات بين العقول في الشرق والغرب، وإنما الفروق الأساسية في منهج البحث والتفكير، فالتعليم الأوربي (1) يقوم أساسا على تحريك ملكات الطالب الذهنية والإبداعية، إلى جانب اهتمامه بالتربية البدنية، والعلاقات الاجتماعية، وهذا ما لا نكاد نجده عندنا. فكثيرا ما نجد الطالب المتفوق في دراسته، لا يجيد العلاقات الاجتماعية.. وكثيرا ما يكون متميزاً في فترة الدراسة، فإذا ما تخرج، لا نجد له أي فكر إبداعي، بل نجده يتحول إلى مجرد موظف روتيني، يتشبث بوظيفته التي تتحول إلى كل حياته، إلى درجة العبودية.
كما أن التعليم الأوروبي مرتبط ارتباطا وثيقا مع واقع المجتمع، فان جميع الأبحاث، هي أبحاث واقعية لها علاقة بتطوير المجتمع، إنسانيا، أو تقنيا، ويرى الطالب الجامعي، أن الجامعة هي احد مؤسسات المجتمع، الذي يعمل على الارتقاء بمنظومته الإنسانية (عبر المؤسسات الخدماتية ومؤسسات المجتمع المدني)، والتقنية (عبر أجهزة الدولة والشركات الخاصة). إلا أن الطالب الفلسطيني في الجامعات الإسرائيلية، يرى انه منفصل عن واقع الأقلية التي ينتمي إليها، وهو بين إلا يجد تحفيزا وتشجيعا على دراسة ظواهر في مجتمعه (أما لان الهيئة الإدارية، أو التدريسية في الجامعة لا تساعده، وأما بسبب التخلف الإداري والتقني، الذي تعاني منه الأقلية)، وبين أن يتأكد، انه لا يمكن دراسة ظواهر في مجتمعه، بنفس الأدوات البحثية والمناهج الفكرية، والنظريات العلمية التي تناسب الآخر، ولا تناسب مجتمعه.
يتطور التعليم العالي الفلسطيني في إسرائيل في ظل غياب جامعة فلسطينية عربية، ومن خلال الجامعات الإسرائيلية، وبطبيعة الحال، تساهم الجامعة في تنمية المجتمع الإسرائيلي وفق المنظور الصهيوني للتنمية، والذي يتعاطى مع أثنية الدولة. فالجامعة الإسرائيلية لا تزرع داخل الطالب الفلسطيني القيم الوطنية، وحب الأرض، فالطالب الفلسطيني يعيش حالة من الغربة في الجامعة، وفي صدام معها في أغلب الأحيان، الجامعة بما تمثله كمؤسسة وكمجتمع ثقافي، يتكون من الأساتذة والطلاب اليهود، والمساقات التدريسية، والرحلات التعليمية، والأبحاث العلمية، وبذلك تشكل الجامعة بالنسبة للطالب العربي محطة، ونقطة انطلاق في مسيرة الحراك الاجتماعي، ووكيل للتحديث الفردي الذي لا ينعكس بالضرورة على تحديث القرية العربية فيما بعد (مصطفى، 2002).
يشعر الطلاب العرب في علاقاتهم مع الجامعة بالاغتراب، لان الجامعة تمثل حلقة من حلقات التمييز ضدهم، وقد لمسوا ذلك من خلال قضايا: سكن الطلبة، محاكم الطاعة، وطرد طلاب عرب، كما في مجال المنح والتسهيلات المختلفة، والسلوك المعادي للعرب في مختلف المنظمات الطلابية، تقييد حرية التعبير، وأخيرا وضع عقبات بنيوية أمام انخراطهم في الجامعات وفي السلك الأكاديمي والبحث العلمي. ولا يشعر الطلاب العرب بأي حالة من الانسجام مع الجامعة سوى في نقطة التقاء واحدة، وهي التخرج، والحصول على اللقب الجامعي.
يمر الطالب الجامعي الفلسطيني، القادم من القرية العربية بثلاث حالات نفسية لحظة التقائه مع المشهد الثقافي داخل الجامعة والحداثة الإسرائيلية، فإما أن يصاب بحالة من الانبهار، يكون مصيرها حالة من التغريب والتشوه الثقافي، أو يصاب بحالة من العزوف الناتج عن الخوف وتجاوز الصدام، فيصبح منغلقا وسلبيا، وإما أن يتفاعل مع البيئة الثقافية الجديدة من خلال قاعدة الحفاظ على الخصوصية الثقافية والهوية الوطنية، والتعاطي مع المشهد الثقافي والتعليمي بآليات نقدية علمية تكسبه إياها الجامعة الإسرائيلية نفسها (مصطفى، 2002). وهي عملية تحتاج إلى جهد كبير من الطالب الجامعي، فالحالة التعبيرية الثالثة يجب أن تعبر عن السلوك والمعيار في نفس الوقت. حيث لا يمكن تناقض السلوك مع المعيار، أو المعيار مع السلوك. وساهمت الفئة الثالثة من الطلاب في نهاية الأمر، في إنتاج وخلق بداية لبلورة بحث علمي فلسطيني خارج عن الإطار الإسرائيلي، وبقيت الفئة المغتربة، والفئة الخائفة خارج أسوار العملية الإبداعية، أي خارج مهمة المواجهة والصدام مع البيئة الثقافية الجديدة، فالأولى غارقة في هذه البيئة، والثانية تتجنب أي مواجهة معها.
هنالك من يعتقد أن الاغتراب عن المدينة اليهودية والجامعة فيها، بفعل الاغتراب اللغوي والقومي، يدفع إلى اتجاهين ثقافيين بين الطلاب الفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية، اتجاه المحاكاة والتقليد، والاندماج الوهمي، بواسطة التخلي عن الثقافة العربية، وعبر إنكار مقومات التطور الذاتي لديها، واتجاه يدفع إلى التعصب لثقافة جماهيرية تطرح ضمن جدلية الاغتراب كأصالة، أو كتأكيد لما هو قائم على الأقل، وحمايته، وكأنه تأكيد وحماية للذات. لا ينجب كلا الاتجاهين مثقفا متنورا، فصاحب الاتجاه الأول، يتملص من العلاقة مع الانتماء الثقافي العربي، الأمر الذي يبعده عن المساهمة في تطوير الثقافة العربية، أما صاحب التوجه الثاني، فلم يغادر قريته أصلا، وان غادرها بيولوجيا، بل تقوقع فيها ضمن ثقافتها الجماهيرية الريفية القائمة، وأضاف إليها مهنة فحسب (بشارة، 2003).
الباحث المعروف Barry (1990، 1984) يقدم نموذجا نظريا حول العلاقة الثقافية بين مجموعتين، الأولى مهيمنة، والثانية مهمشة، ويمكن إسقاط هذا النموذج على الحالة الثقافية والحداثة التي قد يمر بها الطالب الفلسطيني في الجامعة الإسرائيلية، ولحظة التقائه للمرة الأولى، وبشكل مباشر بالحداثة الإسرائيلية. ويبقى النقص في هذا النموذج، انه يتحدث عن مجموعتين الأولى مهاجرة مهمشة، والأخرى مضيفة مهيمنة، بينما في حالة المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، فان الحالة معاكسة، بين مهاجر تحول إلى مهيمن، واصلي أصبح مهمشا. ويطلق على نموذجهما اسم "ثقفنة" (Acculturation) ويتضمن أربع حالات من عملية التثقيف يمكن حصرها في مجموعتين:
1- الاندماج (Integration): حيث أن المجموعة المهمشة تحافظ على قيمها القديمة وتتبنى في نفس الوقت قيم المجموعة المهيمنة.
2- الاستيعاب (Assimilation): حيث تقوم المجموعة المهمشة بالتنازل عن قيمها، وتبني قيم المجموعة المهيمنة.
3- الانفصال (Segregation، Separation): حيث تحافظ المجموعة المهمشة على قيمها، وتتنازل عن عملية تبنى قيم المجموعة المهيمنة.
4- التهميش (Marginalization): وفيه تتنازل المجموعة المهمشة عن قيمها الذاتية، وفي نفس الوقت لا تتبنى قيم وثقافة المجموعة المهيمنة.
إن حالة الطلاب الفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية (مركز الحداثة الإسرائيلية)، قد تمر في واحدة من الحالات الأربع التي ذكرها "بيري" في أبحاثه، وفي هذه الحالة، لا ينفصل التعليم العالي عن الحالة الثقافية التي يمر بها الطالب الفلسطيني خلال التعليم الجامعي وتأثير ذلك على مرحلة ما بعد الدراسة الجامعية، قد يساهم الطالب في تعميق حالة الهامشية، ويعزز التوجه الاندماجي في المجتمع الفلسطيني بصورة لا تقل خطورة، وربما اخطر من أية فئة أخرى في المجتمع، كونهم يملكون القدرة على التنظير لحالة التهميش، على أنها حالة حداثة. وفي اطر نظرية أخرى، يتم وصف حالة التهميش عند "بيري" بالفردانية أو الإقصاء (Bourhis، et. al، 1997).
وهذه الحالة ليست بعيدة أيضا عن حالة بعض الطلاب الفلسطينيين، إذ يمكن أن يشكل التعليم العالي حالة من التهميش، وفي نفس الوقت يمكن أن يشكل حالة من تحدي الهامشية، والحالتان متعلقتان بالتعامل مع الحداثة الإسرائيلية.
مر المجتمع الفلسطيني في إسرائيل في عملية تحديث سريعة، ولكنها جزئية (Al-Haj and Rosenfeld، 1980)، ومشوهة (بشارة، 1998)، لم يحدث عند الفلسطينيين في إسرائيل تحولات اجتماعية وثقافية، نابعة من عملية هجرة من القرية إلى المدينة، المدينة في حالة الفلسطينيين في إسرائيل كانت المدينة اليهودية، وهي المدينة الوحيدة التي عرفوها بعد هدم المركز المدني الفلسطيني خلال نكبة فلسطين (بشارة، 1998، هلال، 2006).
لا شك أن القاعدة التي تقول بمساهمة مكانة الطلاب الطبقية، وتفعيلهم كمجموعة ثقافية خاصة، هي صائبة تماماً، فالتحرر الاقتصادي للطلاب يدفعهم إلى القيام بخطوات ثورية، متجاهلين رد الفعل المضاد، سواء أكان اقتصاديا أو اجتماعيا، وهذا نابع من تحررهم الطبقي والاقتصادي، أو تميزهم الطبقي والاجتماعي.
لقد أثرت ثقافة الطلاب والبيئة التي أتوا منها، على تعامل الطلاب مع المشهد الثقافي داخل الجامعة، وتوجهاتهم التعليمية، فقد طبعت هذه الثقافة والبيئة الطلابية "بالفردانية" والتشديد على الإنجاز الشخصي، والتطور والتقدم الفردي، ولفهم طبيعة الطلاب الفلسطينيين في الجامعات، نستحضر استطلاع أجراه الباحث عزيز حيدر، حول أهم النشاطات السياسية والاجتماعية التي يشترك فيها الطلاب، فقد تبين أن أكثرها شيوعا، هي مجالسة الأصدقاء، وهي 82.2%، وقراءة الصحف اليومية –83.7%، وهذا يعني، أن معظم الطلاب يقومون بنشاطات فردية، وليس بنشاطات مشتركة مع الآخرين، مما يؤشر على عزلة اجتماعية، وتمركز حول الذات، وقد أكد الطلاب على هذه العزلة، والتخلي عن النشاطات المشتركة في إجاباتهم عن مدى فعاليتهم في أطر طلابية سياسية مختلفة، فقد تبين أن 4.2% نشيطون في لجنة الطلاب العرب، 0.4% في الاتحاد القطري، 2.2% في نقابة الطلاب العامة و17% في حركة سياسية (حيدر، 1993، 1994).
وعلى هذا الأساس، لم يغير التعليم العالي كثيرا في الطالب الجامعي، فبعد عودته إلى القرية، أو البلدة العربية ينضم إلى قائمة عائلته في الانتخابات المحلية، حيث أنه يجد في الإطار العائلي استثمارا سياسيا مضمونا، يوصله إلى سدة الحكم فيبقى يعمل على غرار آليات عمل المختار السابق، مع تجديد هنا وهناك، وذلك ليحافظ على استثماره العائلي.
يتأثر تطور التعليم العالي الفلسطيني في إسرائيل بمجموعتين من العوامل، تحدد مسار تطوره واتجاهاته: مجموعة العوامل البنيوية، ومجموعة العوامل الثقافية، ويدخل في إطار العوامل البنيوية: مستوى التعليم الثانوي، وامتحان الدخول (البسيخومتري) وسوق العمل بعد التخرج. أما مجموعة العوامل الثقافية، فتتضمن: طرق التدريس والتعليم في الجامعة، والبيئة الثقافية داخل الجامعة، وتحولات في التفكير الاجتماعي داخل المجتمع الفلسطيني.
العوامل البنوية:
مستوى التعليم الثانوي: يهدف التعليم الثانوي إلى إعداد الطلاب للدراسة في المرحلة الجامعية، بالإضافة إلى إكسابهم مواد تعليمية إضافية للانخراط في المجتمع، ويشكل التعليم الثانوي العامل الأكثر تأثيرا على مميزات التعليم العالي الفلسطيني من حيث معدلات القبول للجامعات، واختيار الموضوع الدراسي. وكما تشير النتائج والمعطيات الرسمية فان التعليم الثانوي هو احد المعوقات الأساسية في انخراط الفلسطيني في التعليم العالي، وهنالك نسبة تصل إلى الربع، ممن حصلوا على شهادات الثانوية الكاملة، لا يتمكنون من مجرد التسجيل للجامعات، لعدم حصولهم على الحد الادنى من استيفاء شروط التسجيل. هذا دون الإشارة إلى شريحة سكانية من الجيل الثانوي، لا يكملون دراستهم الثانوية، ولا يتقدمون لامتحانات التوجيهي ولا يضعون التعليم العالي في سلم أولوياتهم المستقبلية. ورغم الارتفاع النسبي الذي حصل في البلاد عموما، وفي المجتمع الفلسطيني خصوصا، في نتائج امتحانات التوجيهي، بسبب تغييرات بنيوية وجوهرية في الامتحانات التوجيهية نفسها قبل حوالي عشر سنوات، فان ذلك لم يترجم إلى معدلات اكبر في القبول للجامعات، ويعود ذلك إلى المستوى التعليمي المتدني لجهاز التعليم العربي، والى استمرار الاهتمام بالحصول على الشهادة الثانوية الكاملة، دون النظر إلى قدرتها على تأهيل حاملها للانخراط في التعليم العالي، فأصبح المجتمع الفلسطيني رهينة معدلات النجاح في الامتحانات التوجيهية من عام إلى آخر، دون التمعن والتعمق في قدرة هذه المعدلات على تأهيل الطلاب للمرحلة الجامعية. وحتى في هذه المعدلات، فقد سجل التعليم الثانوي العربي تراجعا في العام 2005، هو الأكبر على صعيد الدولة.
هنالك فرق بين الطلاب الخريجين من المدارس الثانوية الأهلية، والمدارس الثانوية الحكومية، فحسب أبحاث أجريت على التعليم الفلسطيني قبل قيام الدولة، توضح أن المدارس الأهلية لعبت دورا هاما في عملية تخريج نخبة من المتعلمين في المجتمع الفلسطيني، وساهمت بشكل كبير في خلق التباين التعليمي بين المسيحيين والمسلمين بسبب انتشار اكبر للمدارس الأهلية التابعة للإرساليات الأجنبية في فلسطين، رغم أنه كان للمسلمين جهاز من المدارس الأهلية الخاصة، ولكنها لم تكن بكمية ونوعية مدارس الإرساليات الأجنبية، أو الكنائس المحلية (نخلة، 1983، 329-360)، وكذلك الأمر بعد قيام الدولة، استمرت المدارس الأهلية في إعطاء أفضل النتائج على مستوى التحصيل العلمي، ولم تعد ذات طابع طائفي على مستوى الطلاب الذين يدرسون فيها (الحاج، 2006، 146-155).
امتحان الدخول أو التصنيف للجامعات- البسيخومتري: ويعتبر امتحان البسيخومتري العائق البنيوي الثاني أمام الطالب الفلسطيني في الانخراط ومتناولية التعليم العالي، وهو يقوم بتصنيف المجموعة الطلابية التي استطاعت أن تستوفي شروط التسجيل للجامعات بعد حصولها على أجازة المرحلة الثانوية، حيث ترفض طلبات نصف الطلاب العرب الذين تسجلوا للجامعات، ويعود ذلك بالأساس إلى امتحان الدخول البسيخومتري، إذ يعتبر هذا الامتحان في أسلوبه ومضمونه عائقا أمام انخراط الطالب الفلسطيني في التعليم العالي، وتشير المعطيات إلى وجود فجوة بين تحصيل ومعدلات الطالب الفلسطيني واليهودي تصل إلى معدل 120 نقطة لصالح الأخير. يستجيب امتحان الدخول للجامعات لأسلوب التعليم الذي يميز المدارس اليهودية والغائب عن المدارس العربية، ففي المدارس اليهودية، يتم التركيز على الطريقة الإبداعية، والتفكير، وأساليب التحليل. أما في المدارس العربية، فتقتصر العملية التعليمية على تلقين المادة، وحشوها في عقول الطلاب، لاستخراجها وقت الامتحان، دون أي مجهود فكري على الطالب أن يبذله في عملية تحليل للمعطيات أو التفكير فيها، كما أن افتقار المدارس العربية للنشاطات الإبداعية، والفعاليات اللامنهجية المتقدمة التي تحتاج إلى بنية تحتية تعليمية مناسبة، تقلل من سبل تطوير التفكير الإبداعي عند الطلاب العرب في المراحل الابتدائية، حيث يصطدم الطلاب العرب مع امتحان البسيخومتري الذي يعتمد على التفكير العميق، والتحليل السريع، والمنطق السليم، فتظهر حالات كثيرة يكون فيها الطالب العربي متفوقا في دراسته الثانوية، وحاصلا على علامات متميزة في التوجيهي، لكنه يحصل على علامات متدنية في البسيخومتري، فتتقلص خيارات المواضيع المطروحة أمامه للدراسة في الجامعة.
سوق العمل بعد التخرج: يشير هذا العامل إلى مرحلة ما بعد التخرج، ولكنه في الحقيقة يرافق تفكير الطالب الفلسطيني قبل التحاقه بالجامعة وخلال دراسته الجامعية، وهو عامل يحدد الكثير من السلوكيات التعليمية لدى الطالب الفلسطيني في الجامعات الإسرائيلية من حيث: الكليات المفضلة، إمكانيات العمل بعد التخرج، انفتاح وانغلاق السوق الإسرائيلي، وقدرة الاقتصاد العربي المحلي على استيعابه، إلى درجة التفكير بجدوى التعليم كرافعة اقتصادية. وقد أثر هذا العامل على تراجع معدلات الطلاب الفلسطينيين في الجامعات في الثمانينات وبداية التسعينيات، حيث سجلت هذه السنوات تراجعا في نسبة الطلاب الفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية، وهو نفس العامل الذي ساهم في هذا الارتفاع منذ منتصف التسعينيات، فبدا واضحا أن هنالك علاقة بين عدد سنوات التعليم، وبين معدلات المشاركة في سوق العمل، بالإضافة إلى تحول في تفضيل المواضيع المستقلة، والمهن الحرة، أو تلك المرتبطة بسوق التشغيل الحكومي في المدن اليهودية، كمواضيع الطب المساعد.
يتبع >